مسائل فى العقيدة السلفية


   07.01.2009                               بسم الله الرحمن الرحيم
فى هذه الغرفة .سنبذل باذن الله جهدنا فى سرد بعض المسائل الاعتقادية لعلماء أهل السنة والجماعة. لنقدمها لاخواننا المسلمين عامةوطلبة العلم خاصة ومضمونها فتاوى لعلماء السلف. ساهم فى جمعها أبى مالك محمد بن حامد بن عبد الوهاب. كما نضيف ءاليه فتاوى جديدة معاصرة.وكما سنعمل أيضاعلى ترتيب الفتاوى حسب الأهمية وما يدور على الألسن و يجول فى العقول من خواطر وشبهات فى أمور عقدية أو مايتعلق بها وما ذلك ءالا لأهمية العقيدة فى حياتنا ,وما لهامن كبير أثر فى تصحيح سيرناءالى الله عزوجل نبتدأ  منذ اليوم  بعون الله فى المسائل الاعتقادية


 01


كيفية الردِّ على من أنكر قدرة الله على خلق المستحيل

 

 

السؤال: عندنا أستاذُ فلسفةٍ في الثانوية من مدينة «عنابة» يسأل التلاميذ: «إذا كان اللهُ قادرًا على كلّ شيء فهل يستطيع أن يخلق إلهًا أقوى منه أو مثله» فكيف نردّ عليه؟

 

الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:

فاللهُ سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يخلق كلَّ شيء بدون استثناءٍ ممّا يسبقه العدم القابل للخلقة، وهو ما يسمَّى بالممكن الجائز كالعالَم وسائرِ أجزائه، أمّا واجب الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى وصفاتُه الذاتية القائمة به، فهو الموجود الذي لم يَسبِقْ وجودُه عدمٌ، ووجوده من ذاته لذاته لا من سبب خارج ولا لِعِلَّةٍ خارجة، وهو معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾ [الحديد: 3]، أي ليس قبله شيء ولا بعده شيء، لذلك لا يجوز أن يقال: إنّ الله يخلق ذاتَه؛ لأنّ الخلقَ هو إيجاد الشيء من العدم، والله تعالى لم يسبق وجودَه عدمٌ، كما أنّ الذي يقبل الخلقة مفتقر في وجوده إلى سبب مؤثّر فيه خارج عن ذاته، وما كان يسبقه العدمُ ويقبل الخلقة لا يكون مثل الله سبحانه ولا أقوى منه أبدًا. تعالى الله عمّا يقولون. والأصل عدم التعرّض لمثل هذا، وهذا الرجل الذي يريد أن يثير الفتن سفسطائي مُغالِطٌ يُلقي الشُّبَهَ والشكوكَ ويريد أن يُزَحْزِحَ العقيدةَ السليمة لتلامذته، والواجب الحذر منه ومن الفلسفة اليونانية ومن أصحابها ومريديها.

والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.

 02

  في ضوابط مسألة العذر بالجهل للشيخ فركوس حفظه الله


في ضوابط مسألة العذر بالجهل للشيخ فركوس حفظه الله

فاعلم -وَّفقك اللهُ، وسدَّدَ خُطاك- أنَّ الجهل بأمور الدِّين ومسائل الشرع يدلُّ على انخفاض مَنْزِلة الجاهل ونَقص إيمانه على قدر جهله، والجهل -في الجملة- أحد موانع تكفير المعيَّن؛ لأنَّ الإيمان يتعلَّق بالعلم، ووجود العلم بالمؤمن به شرط من شروط الإيمان، إذ لا يقوم التكليف مع الجهل أو عدم العلم، غير أنَّ العذر بالجهل مؤقَّت، وتأقيته متوقِّف على عدم توفُّر الأسباب وتحقُّق الشروط، أو في إمكان وجودها وتحقُّقها تقديرًا، ومنه يعلم أنَّ إثبات العذر مُطلقًا لا يسوغ، كما أنَّ نفي العذر بالجهل مُطلقًا لا يصحُّ -أيضًا-، وقد ذكرت هذا المعنى صراحةً في رسالتي «مجالس تذكيرية» بقولي: «وإذا ترجَّح القولُ بأنَّ الجهل عُذْرٌ شرعيٌّ فليس ذلك على إطلاقه»(١- انظر (ص 95) من «مجالس تذكيرية على مسائل منهجية» - دار الإمام أحمد، الطبعة الأولى: (1426ﻫ/2005م))، غير أَنَّني عَدَلْتُ عن الاستدلال بالنصوص الشرعية المذكورة في رسالتي المشار إليها، وأعدت بيانها بتوجيه آخر، أراه أقرب للحقِّ وأجدر بالصواب.

هذا، واللائق بهذا المقام النظر في مسألة العذر بالجهل في المسائل الدِّينية إلى جزئياتٍ متعدِّدةٍ تتبلور من خلالها المسألة وتنضبط، ويمكن بيان هذه الجزئيات -باختصار- من الحيثيات التالية:



- فمن حيث نوعيةُ المسائل المجهولة وضوحًا وخفاءً:

فالمسائلُ الخفية التي قد يخفى دليلُها على بعض الناس كاستعمال الصرف والعطف -وهو: نوعٌ من السحر يزعمون أنه يحبِّب المرأةَ لزوجها فلا ينصرف عنها- أو المسائل الدقيقة والخفية المختلف فيها، أو المسائل التي لا يسعه معرفتها إلاَّ بعد إعلامه بحكم الله فيها، أو المسائل التي تحتاج إلى علمٍ بها لا يدرك بالعقل كالأسماء والصفات، كما قال الشافعي -رحمه الله-: «لله أسماءٌ وصفاتٌ لا يسع أحدًا ردُّها، ومَن خالف بعد ثبوت الحُجَّة عليه فقد كفر، وأمَّا قبل قيام الحُجَّة فإنه يعذر بالجهل؛ لأنَّ علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر»(٢- «فتح الباري» لابن حجر (13/407))، أو المسائل التي وقع فيها خطأ لشبهةٍ وسوء فهمٍ، أو اعتمد على أحاديث ظنَّها ثابتةً وهي ضعيفة أو باطلة، فيعذر بجهله، كما يعذر المجتهد بنظره واجتهاده في مسائل اجتهادية انتفى فيها وجود نصٍّ قطعي الثبوت والدلالة، ونحو ذلك.

أمَّا المسائل الظاهرة البيِّنة الجلية، أو المعلومة من الدِّين بالضرورة كأصول الدِّين والإيمان التي أوضحها الله في كتابه، وبلَّغها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أتمَّ البلاغ، فالعذر بالجهل فيها غير مقبولٍ لكلِّ مَن ادعاه بعد بلوغ الحُجَّة وظهور المحجَّة، قال الشافعي رحمه الله -مُبيّنًا علم العامَّة-: «ما لا يسع بالغًا غير مغلوب على عقله جهلُه، مثل الصلوات الخمس، وأنَّ لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم وأنه حرم عليهم الزِّنا والقتل، والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا ممَّا كُلِّف العباد أن يَعقلوه ويَعلموه ويُعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حَرَّم عليهم منه»(٣- «الرسالة» للشافعي (357)). وقال محمَّد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: «إنَّ الشخص المعيَّن إذا قال ما يوجب الكفر فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحُجَّة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلُها على بعض الناس، وأمَّا ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يُعلم من الدِّين بالضرورة فهذا لا يتوقَّف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة تدفع بها في نحر من كفَّر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات بعد بلوغ الحُجَّة ووضوح المحجة»(٤- «الدرر السنية» (8/244)).



- ومن حيث حال الجاهل وصفتُه:

فإنَّ مدارك الناس تتفاوت قُوَّةً وضعفًا، فالذي لم تقم عليه الحُجَّة كحال الجاهل لكونه حديثَ عهدٍ بالإسلام، أو مَن نشأ في بادية نائيةٍ، فَجَهْلُ مَن كان هذا حاله معذور به إلاَّ بعد البلاغ، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «لا يُكَفِّرُ العلماءُ مَن استحلَّ شيئًا من المحرَّمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإنَّ حكم الكفر لا يكون إلاَّ بعد بلوغ الرسالة، وكثيرٌ من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أنَّ الرسول بعث بذلك»(٥- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (28/501)).

غير أنه ينبغي التفريق بين الجاهل المتمكِّن من التعلُّم والفهم، القادر على معرفة الحقِّ، لكنَّه مُفرِّطٌ في طلب العلم، ثمَّ أعرض عن ذلك تاركًا ما أوجب اللهُ عليه، وخاصة إذا وجد في دار الإسلام حيث مَظِنَّة العلم، وبين الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم، فأمَّا الأول: فلا عذر له لتقصيره(٦- وضع العلماء قاعدة وهي أنه: «لاَ يُقْبَلُ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ عُذْرُ الجَهْلِ بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ»)، وينتفي عنه وصف العجز لتمكُّنه من العلم الذي هو شرط الإيمان؛ لأنَّ الشرع أمرَ بالعلم والتعلُّم وسؤال أهل الذِّكر، ويسَّره وبيَّنه لمن صَلَحت نيَّتُه وحسن منهاجه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [سورة القمر]، وقال سبحانه: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43، الأنبياء: 7]، وفي الحديث: «أَلاَ سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِنَّمَا شِفَاءُ العَيِّ(٧- العي: الجهل. [«النهاية» لابن الأثير (3/334)]) السُّؤَالُ»(٨- أخرجه أبو داود في «الطهارة» (1/240)، باب في المجروح يتيمَّم، وابن ماجه في «الطهارة وسننها» (1/189)، باب في المجروح تصيبه جنابة فيخاف على نفسه إن اغتسل، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح أبي داود» (1/101)، وفي «صحيح ابن ماجه» (1/178)).

وأمَّا الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم، فهذا على قسمين:

الأول: الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم، وهو محبُّ للهُدَى، مُؤْثِرٌ له، مريدٌ للاسترشاد والهدايةِ، لكنه غير قادرٍ عليه، أو على طلبه، عجزًا وجهلاً، أو استفرغ جُهدَه في طلبه ولم تصله حُجَّة صحيحة، فهذا حكمه كأهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة، ومن طلب الدِّين ولم يظفر به فعجزه عجز الطالب، وهذا معذور بجهله.

الثاني: الجاهل العاجز عن العلم والفهم، لكن لا إرادةَ له في الطلب، بل مُعرِض عنه -وهو راضٍ بما هو عليه- ولا تطلب نفسه سواه، ويتقاعس عن نيل مزيد الهدى لنفسه، فحال عجزه وقدرته سواء بلا فرق، فهذا عجزه عجز المُعرِض، فهو لا يُلحق بعجز الطالب للتباين الحاصل بينهما(٩- انظر: «طريق الهجرتين» لابن القيم (412، 413)).



- ومن حيث حال البيئة:

فإنه يفرَّق بين أماكن الناس وزمانهم من جهة انتشار العلم أو عدم انتشاره، أي: بين مجتمعٍ ينتشر فيه العلم والتعليم، وتعرَف أماكنه بنشاط أهل البصيرة بالدعوة إلى الله تعالى والنهوض بالعلم والتوحيد، بحيث لا تخفى مظانُّه ومدارسه وأهله، وبين زمن فتور العلم وضعف القائمين به، حتى لا يبقى من يبلِّغ، فينتشر الجهل ويَضْمَحِلُّ العلم، وتأكيدًا لهذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «إنَّ الأمكنة التي تفتر فيها النُّبوَّة لا يكون حكمُ من خَفِيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة»(١٠- «بغية المرتاد» (السبعينية) لابن تيمية (311)).

ويقول -أيضًا-: «وكثيرٌ من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يَنْدَرِسُ فيها كثيرٌ من علوم النُّبوَّات حتى لا يبقى من يبلِّغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا ممَّا يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلِّغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمَّة على أنَّ من نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن أهل العلم والإيمان، وكان حديثَ العهد بالإسلام فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَعْرِفُونَ فِيهِ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً وَلاَ صَوْمًا وَلاَ حَجًّا إِلاَّ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَالعَجُوزَ الكَبِيرَةَ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُمْ يَقُولُونَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً وَلاَ حَجًّا، فَقَالَ: وَلاَ صَوْمٌ يُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ»(١١- أخرجه ابن ماجه في «سننه»، كتاب «الفتن»، باب ذهاب القرآن والعلم (2/1344)، والحاكم في «المستدرك» (4/520)، من حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه. والحديث قوَّى إسناده الحافظ في «فتح الباري» (13/16)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/171))(١٢- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (11/407)).



- من حيث التسميةُ والعقوبة:

فالذي وقع في مَظهرٍ شِرْكِيٍّ ولم يعلم مناقضتَه للإسلام كأن يكون حديث عهد بالإسلام، أو يعيش في بلدِ جهلٍ، أو نشأ في بادية نائية، أو كانت المسألةُ خفيةً غيرَ ظاهرةٍ فإنه يفرَّق بين قُبح المعصية وتسميةِ فاعلها بها، سواء قبل ورود الشرع وقيام الحُجَّة، أو بعد البيان وظهور الحجة الرِّسالية -كما في فتوى سابقة-(١٣- انظر رقم (667) من فتاوى العقيدة والتوحيد، تحت عنوان: «في ثبوت وصف الشرك مع الجهل قبل قيام الحجة») وبين كون مرتكبها لا يستحقُّ العقوبةَ في الدارين؛ لأنَّ العقوبة والعذابَ متوقِّفٌ على بلاغ الرسالة، لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15].

فالمتلبِّس بالشرك كالساجد لغير الله مِن وَلِيٍّ أو صاحبِ قبرٍ فهو مشركٌ مع الله غيرَه في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده؛ لأنه أتى ما ينقض قولَه من سجود لغير الله، فمن حيث التسميةُ فهو مشرك بما حدث منه من معصية السجود لغير الله، لكنه قد يُعذر بجهله من جهة إنزال العقوبة التي لا تتمُّ في الدارين إلاَّ بعد البيان وإقامة الحُجَّة للإعذار إليه. قال ابن تيمية -رحمه الله-: «واسم المشرِك ثبت قبل الرسالة، فإنه يشرك بربِّه ويعدل به، ويجعل معه آلهةً أخرى، ويجعل له أندادًا قبل الرسول، ويثبت أنَّ هذه الأسماءَ مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهلية، يقال: جاهلية وجاهلاً قبل مجيء الرسول، وأمَّا التعذيب فلا»(١٤- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/38))، وقال النووي: «وأمَّا الجاهلية فما كان قبل النبوة سمُّوا بذلك لكثرة جهالاتهم»(١٥- «شرح مسلم» للنووي (3/87)).

قلت: ومِن بين الأدلة القرآنية على ثُبوت وصف الشرك والكفر مع الجهل -فضلاً عن سائر المعاصي- وذلك قبل قيام الحُجَّة والبيان، قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6]، فوصفهم اللهُ بالشِّرك مع شِدَّة الجهل لاندراس آثار الشرائع، وقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 1]، والمراد بالبيِّنة هو الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فإنه بيّن لهم ضلالهم وجهلهم ودعاهم إلى الإيمان، فأنقذهم الله به من الجهل والضلالة، والله سبحانه سمَّاهم كفارًا ومشركين فدلَّ على ثبوت وصف الكفر والشرك قبل البعثة المحمَّدية وقيام الحجة القرآنية.

فالحاصل: أنه ينبغي -في مسألة العذر بالجهل- مراعاة نوعية المسائل المجهولة من جهة الوضوح والخفاء، والنظرُ إلى أحوال الناس وتفاوت مداركهم من جهة القُوَّة والضعف، واعتبار حال بيئتهم -مكانًا وزمانًا- من جهة وجود مَظِنَّة العلم من عدمه، مع مراعاة التفريق في الحكم بين أحكام الدنيا والآخرة.

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.



الجزائر في: 12 من ذي القعدة 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 09 نوفمبر 2008م



--------------------------------------------------------------------------------

١- انظر (ص 95) من «مجالس تذكيرية على مسائل منهجية» - دار الإمام أحمد، الطبعة الأولى: (1426ﻫ/2005م).

٢- «فتح الباري» لابن حجر (13/407).

٣- «الرسالة» للشافعي (357).

٤- «الدرر السنية» (8/244).

٥- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (28/501).

٦- وضع العلماء قاعدة وهي أنه: «لاَ يُقْبَلُ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ عُذْرُ الجَهْلِ بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ».

٧- العي: الجهل. [«النهاية» لابن الأثير (3/334)].

٨- أخرجه أبو داود في «الطهارة» (1/240)، باب في المجروح يتيمَّم، وابن ماجه في «الطهارة وسننها» (1/189)، باب في المجروح تصيبه جنابة فيخاف على نفسه إن اغتسل، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح أبي داود» (1/101)، وفي «صحيح ابن ماجه» (1/178).

٩- انظر: «طريق الهجرتين» لابن القيم (412، 413).

١٠- «بغية المرتاد» (السبعينية) لابن تيمية (311).

١١- أخرجه ابن ماجه في «سننه»، كتاب «الفتن»، باب ذهاب القرآن والعلم (2/1344)، والحاكم في «المستدرك» (4/520)، من حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه. والحديث قوَّى إسناده الحافظ في «فتح الباري» (13/16)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/171).

١٢- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (11/407).

١٣- انظر رقم (667) من فتاوى العقيدة والتوحيد، تحت عنوان: «في ثبوت وصف الشرك مع الجهل قبل قيام الحجة».

١٤- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/38).

١٥- «شرح مسلم» للنووي (3/87).
في سؤال الملكين للميت الغريق لفضيلة الشيخ أبي عبدالمعز علي فركوس.
الصنف: فتاوى العقيدة والتوحيد
03
السؤال للفتوى رقم 297:

هل سؤال الملكين للميت الغريق يكون بعد خروج الروح أم بعد أن يُقْبَرَ؟ جزاكم الله عنَّا كلّ خير.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:

فمن المعلوم أنّ سُؤال الملكين للمقبور يكون بعد وضعه في قبره كما ثبت ذلك عن النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم أنّه قال: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ…» الحديث(١- أخرجه البخاري في «الجنائز»: (1374)، ومسلم في «الجنّة وصفة نعيمها»: (7395)، والنسائي في «الجنائز»: (2062)، وأحمد: (12605)، من حديث أنس رضي الله عنه).

أمّا من لم يوضع في القبر كمن أكلته السباع والحيتان أو من احترق حتى صار رمادًا أو من شَتَّتَهُ انفجار قنبلة فإنّه ولا شكّ يسأل لكن مع الجهل بالكيف؛ لأنّه أمر غَيْبِيّ توقيفي لا يجوز فيه قياس عالَم الغيب على عالم الشهادة، أمّا عذاب القبر فيكون للنفس والبدن جميعًا باتفاق أهلِ السُّنَّة والجماعةِ، تُنعَّم النفس وتعذّّب مفردة عن البدن ومتّصلة به، فكلُّ من مات وهو مستحقّ للعذاب ناله نصيبُه منه، قُبِرَ أو لم يُقْبَرْ(٢- للمزيد من التوسّع راجع «الروح» لابن القيم: (81-88)).

والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.

الجزائر في: 25 رجب 1426ﻫ
الموافق ﻟ: 30 أوت 2005م

---------------------------------

١- أخرجه البخاري في «الجنائز»: (1374)، ومسلم في «الجنّة وصفة نعيمها»: (7395)، والنسائي في «الجنائز»: (2062)، وأحمد: (12605)، من حديث أنس رضي الله عنه.

٢- للمزيد من التوسّع راجع «الروح» لابن القيم: (81-88).
04-------في مسألة الاستثناء في الإيمان


السؤال:
هل معتقدُ أهلِ
السُّنَّةِ والجماعةِ هو الاستثناء في الإيمان، أم أنّهم يمنعون الاستثناءَ فيه
لكونه شكًّا في الإيمان؟ أفيدونا جزاكم اللهُ خيرًا.






الجواب:
الحمدُ
لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله
وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:



فقول
الرجل: «أنا مؤمنٌ إن شاء الله»، هو مذهب أهلِ السُّنَّة في مسألة الاستثناء في
الإيمان، لكن باعتبار كمال الإيمان وعدم العلم بالعاقبة، لا باعتبار أصل الإيمان
أو الشكِّ فيه، ومِنْ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة من يرى التفصيل في هذه
المسألة: فإِنْ صَدَرَ منه الاستثناء في الإيمان عن شكٍّ فيه أي: الشكّ في وجود
أصل الإيمان وهو مُطلق الإيمان، فهذا محرَّم، بل هو كُفْرٌ لِصُدُورِهِ عن شَكٍّ
مُنَافٍ للإيمان المطلوبُ فيه الجزم والقطع بحصوله، أمّا إن صدر منه الاستثناء لا
على وجه الشَكِّ، وإنّما خشية الشهادة للنفس بتحقيق الإيمان المطلق، أي: أنَّ
المستثنيَ يخاف تزكيةَ النفس باستكمال الإيمان، فهذا الاستثناء واجب تجنُّـبًا من
الوقوع في محذور تزكية النفس والشهادة لها بما يخاف أن لا يكون متحقّقًا فيه، أي:
لا يدري أهو ممّن يستحقّ حقيقة الإيمان أم لا؟ وتجديد المشيئة منه تزكية للنفس بلا
علم، ولهذا لَمَّا قيل لابن مسعود رضي الله عنه: «إنّ هذا يزعم أنّه مؤمن»، قال:
«فَسَلُوهُ أَفِي الجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ؟»، فقال الرجل: «الله أعلم»،
فقال ابن مسعود رضي الله عنه: «فهلاَّ وَكَّلْتَ الأُوْلَى كَمَا وَكَّلْتَ
الآخِرَةَ»
(١). ذلك لأنّ جميع الطاعات -عند أهل
السُّنَّة- داخلة في مُسَمَّى الإيمان، وهو متضمِّنٌ لفعل الواجبات فلا يشهدون على
أنفسهم القيام بجميع الطاعات بما في ذلك الواجبات، فمن هذا المأخذ يقتضي وجوب
الاستثناء، وإنّما يكون في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، ولكن ذلك لا يمنع من
ترك الاستثناء إذا ما أريد أصل الإيمان أو مطلقه.



أمّا
إن كان يقصد بالاستثناء أنّ ما حصل له في قلبه من الإيمان هو بمشيئة الله، أو أنّه
عَلَّقه على وجه بيان التعليل، أو قصد به التبرُّك بذكر المشيئة ونحو ذلك فجائز،
وقد جاء التعليق بمشيئة الله في بعض النصوص على أمور محقّقة، لا يعتريها شكّ على
نحو قوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ﴾ [الفتح: 27]، وفي قوله
صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم في زيارة القبور: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دِيَارَ
قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ»
(٢)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ
مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ
دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ -إِنْ شَاءَ
اللهُ- مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا»
(٣).


هذا،
وجدير بالتَّـنْبِيه أنّ أصلَ مسألةِ الاستثناءِ أَحْدَثَهَا المرجئةُ لِيَجِدُوا
حُجَّةً على مقالتهم في الإيمان تشفع لهم صِدْقَ اعتقادهم، وَوَجْهُ ذلك أنّ الرجل
يعلم من نفسه أنّه ليس بكافر، بل يجد قلبَه مصدِّقًا بما جاء به الرسول صَلَّى
اللهُ عليه وآله وسَلَّم، فيقول: أنا مُؤْمِنٌ، فيحرم عليه الاستثناء مُطلقًا،
ليثبت لهم أنّ الإيمان هو عبارة عن التصديق القلبي فحسب
(٤)، وأمّا الكلابية فقالوا بوجوب الاستثناء
مُطلقًا، وقول كلا الطائفتين خطأ سواءً القول بتحريم الاستثناء مطلقًا أو بوجوبه
مطلقًا، ومذهب الحقّ هو الوسط بلا إفراط ولا تفريط وهو مذهب السلف فأجازوا
الاستثناء باعتبار كمال الإيمان وعدم العلم بالعاقبة، ومنعوه باعتبار أصل الإيمان،
أو الشكّ فيه
(٥).


والعلمُ
عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا
محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.






[right]
[/right]



١- أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في
كتاب «الإيمان»: (67)، والآجري في «الشريعة»: (139)، وابن بطة في «الإبانة عن شريعة
الفرقة الناجية»: (2/869).



٢- أخرجه مسلم في «الطهارة»:
(607)، وأبو داود في «الجنائز»: (3239)، والنسائي في «الطهارة»: (151)، وابن ماجه
في «الزهد»: (4448)، ومالك في «الموطأ»: (59)، وأحمد: (8214)، من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه.



٣- أخرجه مسلم في «الإيمان»:
(512)، والترمذي في «الدعوات»: (3951)، وابن ماجه في «الزهد»: (4449)، وأحمد:
(9752)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.



٤- مجموع الفتاوى لابن
تيمية: (7/448).



٥- انظر: تفصيل المسألة في
المصدر السابق: (7/429-460)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: (351-353).

_________________

05
رؤية المؤمنين الله تعالى يوم القيامة للشيخ فركوس حفظه الله
في رؤية المؤمنين الله تعالى يوم القيامة


السـؤال:
نحن شبابٌ من مدينة غرداية المنتحلة –كما هو معروف- للمذهب الإباضي، أحببنا أن نسأل فضيلتَكم عن قول من ينكر رؤيةَ اللهِ تعالى يومَ القيامة، كما نرجو من السادةِ العلماءِ أن يوضِّحوا هذه المسألة ويُبيّ ِنوا الحقَّ فيها؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.


الجـواب:
فالمعتقدُ الصحيحُ ما أجمعَ عليه أهلُ الحقِّ واتفقَ عليه أهلُ التوحيد والصِّدْقِ أنّ اللهَ تعالى يراه المؤمنون بأبصارهم كما يرون القمرَ ليلةَ البَدْرِ، ويرونه كما يرون الشّمسَ ليس دونها سحاب، وقد تضافرت على مسألةِ رُؤيةِ اللهِ تعالى يومَ القيامة نصوصٌ من الكتابِ والسُّـنَّة وإجماعِ السلف، قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23]، وإضافةُ النظر إلى الوجهِ الذي هو محلّه في الآية، وتعديته بأداة «إلى» صريحةٌ في نظر العين التي في الوجه إلى نفس الربّ جلّ جلاله، وبقوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس: 26]، وفسّر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم «الحُسْنَى» بأنها الجنَّة، وفسّر «الزِّيَادَة» بأنها النظرُ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ، وهو ثابتٌ في صحيح مسلم(١- أخرجه مسلم في «الإيمان»، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه: (450)، والترمذي في «صفة الجنة»، باب ما جاء في رؤية الله: (2558)، من حديث صهيب رضي الله عنه.)، ولقوله تعالى في أصحاب الجنّة: ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35]، وفُسِّر «المزيد» بالنظر إلى وجه الله تعالى، وبقوله تعالى عن الكفار: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: 15]، فالآية دلّت بمفهومها على أنّ المؤمنين ليسوا محجوبين عن الله يوم القيامة، وأنهم يرونه بالنظر إليه يوم القيامة.
أمّا الأحاديثُ المثبِتَةُ لرؤيةِ الله سبحانه يومَ القيامة فكثيرةٌ جدًّا حتى بلغت حدَّ التواتُرِ كما جَزَمَ به جَمْعٌ من الأئمّة، وقد أفردها بعضُهم لكثرتها بمصنّفات خاصّة كالدارقطني والآجري، وأبي نعيم الأصفهانيِّ والبيهقيِّ، ومن هذه الأحاديث: ما اتفق عليه الشيخان من حديث جريرِ بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه قال: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا»(٢- أخرجه البخاري في «مواقيت الصلاة»، باب فضل صلاة العصر: (529)، ومسلم في «المساجد»، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما: (1434)، وأبو داود في «7429»، باب في الرؤية:(7429)، والترمذي في «صفة الجنة»، باب ما جاء في رؤية الله:(2551)، وابن ماجه في «المقدمة»، باب فيما أنكرت الجهمية: (177)، وأحمد: (18766)، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.).

وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ قال: «قُلْنَا: يا رسول اللهِ هل نرى ربَّنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارُّون في رؤية الشمس والقَمر إذا كان صَحوًا؟ قلنا: لا، قال: فإِنكم لا تضارُّون في رؤية ربِّكم يومئذٍ إلا كما تضارُّون في رؤيتهما»(٣- أخرجه البخاري في «التوحيد»، باب قول الله تعالى وجوه يومئذ ناظرة: (7886)، ومسلم في «الإيمان»، باب معرفة طريق الرؤية: (454)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.)، أي: لا تزدحمون على رؤية الله تعالى، كلٌّ يراه وهو في مكانه؛ لأنّ الناسَ كما يرون الشمسَ والقمرَ من غير زحام وهما مخلوقان فكيف بالخالق.

قال ابن أبي العزّ الحنفي –رحمه الله-: «ليس تشبيهُ رؤيةِ الله برؤية الشّمس والقمر تشبيهًا لله، بل هو تشبيهُ الرؤية بالرؤية، لا تشبيهُ المَرئي بالمرئي، ولكن فيه دليلٌ على علوِّ الله على خلقه، وإلاّ فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟! ومن قال: يُرى لا في جهةٍ فليراجِعْ عقلَه!! فإمَّا أن يكون مكابِرًا لعقله أو في عقله شيءٌ، وإلاّ فإذا قال: يُرى لا أمامَ الرائي ولا خلفَه ولا عن يمينه ولا عن يساره، ولا فوقه ولا تحته رَدَّ عليه كلُّ من سمعه بفطرته السليمة»(٤- «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز: (1/219).).

هذا، ولم ينكر الرؤيةَ إلاّ أهلُ البدع كالجهميةِ والمعتزلة، وتلتقي الإباضية –وهي إحدى فِرق الخوارج- إلى حدّ كبيرٍ مع المعتزلة في تأويل الصفات وفي إنكار رؤية الله تعالى في الآخرة وفي غيرها من المعتقدات، مجانبةً لعقيدة أهلِ الحقّ والإيمانِ. ومن شُبَهِهِم العقليةِ في إنكار الرؤية أنه يلزم من إثبات الرؤيةِ أن يكون اللهُ تعالى في جهةٍ، واللهُ تعالى في مُعتقدهم ليس في جهة، و هو عندهم لا داخلَ العالَم ولا خارجَه، ولا فوقَ ولا تحتَ ولا يَمنةً ولا يسرةً، لذلك نَفَوْا الرؤيةَ؛ لأنّ الله تعالى ليس في جهة، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنّ هذه الأوصاف تقتضي أن يكون عَدَمًا لا وجودَ له سبحانه، ولهذا قال بعض العلماء الممثل أعشى والمعطل أعمى، فالمعطّل يعبد عدمًا والممثل يعبد صنمًا والموحِّد يعبد واحدًا صمدًا (٥- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (5/196-261)، «الصواعق المرسلة» لابن القيم: (1/148)، «شرح قصيدة ابن القيم» لأحمد بن إبراهيم: (1/28).).
أمّا شُبهتُهم الشرعيةُ فيستدلُّون بقوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103]، على أنه لا تراه الأبصار، وبقوله تعالى عن موسى: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي﴾ [الأعراف: 143]، دليل على نفي الرؤية. ولا يخفى أنّ نفيَ الرؤيةِ في الآيتين إنّما يفيدُ نفيَهما عنه سبحانه في الدنيا، والأدلةُ السابقةُ تدلّ على إثباتها في الآخرة، ولا تعارضَ بينها، كما أنّ الإدراكَ المنفيَّ في الآية معناه الإحاطة، وهو قدرٌ زائدٌ على الرؤية، والمراد أنّ العيونَ لا تحيطُ به لكِبره وعظمته وإن رأته، فالسماءُ نراها بالعيون ولا نحيطُ بها، فاللهُ أعظم وأكبر، والدليلُ على الفَرْقِ بين الرؤية والإحاطة قوله تعالى في أصحاب موسى وقومِ فرعون: ﴿فَلَمَّا تَرَاءى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 61-62]، فالآية نفتِ الإدراكَ ولم تنفِ الرؤيةَ، «فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يُرى ولا يُدرك، كما يُعلم ولا يُحاط به علما، بل الشَّمس المخلوقة يراها ولا يتمكن رائيها من إدراكها»(٦- «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز: (1/215).).

أمّا سؤال موسى رؤية اللهِ فدليلٌ على جواز الرؤية وإمكانها، واللهُ تعالى أخبره أنه لا يُرى في الدنيا، فقال: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ ولم يقل: «إني لا أُرى»، وقد ثبت في الصحيح: «أَنَّ أَحَدًا مِنَّا لاَ يَرَاهُ حَتَّى يَمُوتَ»(٧- أخرجه مسلم في «الفتن وأشراط الساعة»، باب ذكر ابن صياد: (7356)، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.)، وعليه فالله يُرى في الآخرة، وأولى الناس بهذه الرؤية الأنبياء، وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»(٨- أخرجه البخاري في «التفسير»، باب قوله ومن دونهما جنتان: (4597)، وابن حبان في «صحيحه»: (7386)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.).
هذا، ولإجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمّة أهل السُّنَّة على إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وكثرة ما ورد في إثباتها من الأدلَّة من نصوص الكتاب والسُّنَّة، وهي ممَّا استفاضت وتواترتْ، ولا يجحَدُها أو يردّ أخبارَها إلاّ مارق عن الدِّين خارج عن مِلَّتِهِ. قال الآجري: «وقد قال الله عزّ وجلّ لنبيِّه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]، وكان ممّا بيّنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لأمّته في هذه الآيات أنه: أعلمَهم في غير حديث: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ»، رواه جماعةٌ من صحابته رضي الله عنهم، وقَبِلها العلماءُ عنهم أحسن القَبول، كما قَبِلوا عنهم عِلمَ الطهارة والزكاة والصيام والحجّ والجهادِ، وعلمَ الحلال والحرام، كذا قَبِلوا منهم الأخبارَ: أنّ المؤمنين يرون اللهَ عزّ وجلّ لا يشكّون في ذلك، ثمّ قالوا: من ردّ هذه الأخبار فقد كفر»(٩- «الشريعة» للآجري: (253).).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والذي عليه جمهور السلف أنّ من جَحَدَ رؤيةَ الله في الدار الآخرة فهو كافرٌ، فإن كان ممّن لم يبلغه العلمُ في ذلك عُرِّف ذلك، كما يُعَرَّف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصرّ على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر»(١٠- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (6/486).).

ورؤيةُ الله تعالى في الآخرة –فضلاً عن ثبوتها- فإنها أعزّ ما يطلبه أهلُ الإيمان والعبوديةِ، وأقصى الغايات التي يتسابق عليها المتسابقون، وفي معرض وصف هذا المطلب العظيم يقول ابن القيم: «وهي العناية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا ناله أهل الجنّة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحُرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشدّ عليهم من عذاب الجحيم، اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميعُ الصحابة والتابعون، وأئمّة الإسلام على تتابُعِ القرون، وأنكرها أهلُ البدع المارقون»(١١- «حادي الأرواح» لابن القيم: (204).).

نسألُ اللهَ تعالى أن يرزقَنَا لذّةَ النظرِ إلى وجهه الكريم، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.


الجزائر في: 1 جمادى الثانية 1428ﻫ
الموافق ﻟ: 17 جوان 2007م
-------------------------------------------------
١- أخرجه مسلم في «الإيمان»، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه: (450)، والترمذي في «صفة الجنة»، باب ما جاء في رؤية الله: (2558)، من حديث صهيب رضي الله عنه.

٢- أخرجه البخاري في «مواقيت الصلاة»، باب فضل صلاة العصر: (529)، ومسلم في «المساجد»، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما: (1434)، وأبو داود في «7429»، باب في الرؤية:(7429)، والترمذي في «صفة الجنة»، باب ما جاء في رؤية الله:(2551)، وابن ماجه في «المقدمة»، باب فيما أنكرت الجهمية: (177)، وأحمد: (18766)، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

٣- أخرجه البخاري في «التوحيد»، باب قول الله تعالى وجوه يومئذ ناظرة: (7886)، ومسلم في «الإيمان»، باب معرفة طريق الرؤية: (454)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

٤- «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز: (1/219).

٥- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (5/196-261)، «الصواعق المرسلة» لابن القيم: (1/148)، «شرح قصيدة ابن القيم» لأحمد بن إبراهيم: (1/28).

٦-«شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز: (1/215).

٧- أخرجه مسلم في «الفتن وأشراط الساعة»، باب ذكر ابن صياد: (7356)، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

٨- أخرجه البخاري في «التفسير»، باب قوله ومن دونهما جنتان: (4597)، وابن حبان في «صحيحه»: (7386)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

٩-«الشريعة» للآجري: (253).

١٠- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (6/486).

١١- «حادي الأرواح» لابن القيم: (204).

في حكم قراءةِ الإنجيل والتوراة---06-

السؤال: ما حكمُ قراءةِ الإنجيلِ والتوراةِ؟ وما شبهةُ ثبوتِ قراءتها عن شيخ الإسلام؟

 

الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:

فلا يجوزُ قراءةُ الكتب التي امتزج بها حقٌّ وباطلٌ دَرْءًا للمفسدة الحاصلة بقراءتها على دين المسلمين، والمبتغي للحقِّ يجده في مَصْدَرَيِ الثِّقة والائتمان وهما: الكتاب والسُّنَّة إذ لا يخرج الحقُّ عنهما، ولذلك حذّر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ من كُتُبِ أهلِ الكتابِ كما في قِصَّة عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه الذي أتى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بكتابٍ أصابه من بعضِ أهلِ الكتاب فَغَضِبَ، وقال: «أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لاَ تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتْبَعَنِي»(١- أخرجه أحمد: (15546)، والدارمي: (1/115)، من حديث جابر رضي الله عنهما، والحديث حسَّنه الألباني في «ظلال الجنة»: (1/27)، وقال: «إسناده ثقات غير مجالد، وهو ابن سعيد فإنّه ضعيف لكن الحديث حَسَنٌ له طُرُقٌ أشرتُ إليها في «المشكاة»: (177) ثمّ خرَّجت بعضها في «الإرواء»: (1589)»).

هذا، ومن كان محصَّنًا بعلمِ الكتابِ والسُّنَّة واحتاجَ إلى نُصرة الدين وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ بدراسة كُتُبِ أهلِ الأهواء والبدع والمتكلِّمين دراسةً نقديةً معمَّقةً لإيضاح عَوَارِهَا وبيانِ تناقُضِها، جاز ذلك للعالِمِ المتمكِّن كما هو صنيعُ شيخِ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مع كتب المناطقة وردِّه على المنطقيِّين والفلاسفة، كما درس كُتُب الرافضةِ من أهل الشيعة وردَّ عليهم في كتاب: «منهاج السنة النبوية»، كما بيَّن -رحمه الله- التناقضَ الحاصلَ بين الأناجيل المختلفة وضلال النصارى في معتقدهم.

والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.

 

الجزائر في: 14 ربيع الأول 1426ﻫ
الموافق ﻟ: 23 أفريل 2005م


 

١- أخرجه أحمد: (15546)، والدارمي: (1/115)، من حديث جابر رضي الله عنهما، والحديث حسَّنه الألباني في «ظلال الجنة»: (1/27)، وقال: «إسناده ثقات غير مجالد، وهو ابن سعيد فإنّه ضعيف لكن الحديث حَسَنٌ له طُرُقٌ أشرتُ إليها في «المشكاة»: (177) ثمّ خرَّجت بعضها في «الإرواء»: (1589)».

 

 
 
Aujourd'hui sont déjà 1 visiteurs (1 hits) Ici!
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement